ليلة واحدة تكفي

ليالٍ تمرّ بنا كغيرها، عابرةً بلا أثرٍ، بلا وعدٍ، بلا رجاء. لكن هناك ليلة واحدة ليست كباقي الليالي، ليلة تختصر الزمن، تهزم المستحيل، وتعد القلوب الوجلة بما لا يخطُر لها في بال. إنها ليلة القدر، ليلة الحلم الكبير، والرجاء الممتدّ، واليقين الذي يتحدّى كلّ منطق. ليلة لا تعني أنها “خير من ألف شهر” فقط، بل تعني أنها للحظة واحدة قادرة على قلب المصائر، أن الدعاء يمكنه أن يغيّر المكتوب، وأن السماء تفتح أبوابها لمن يؤمن بأن المستحيل قد يكون في متناول يده، إذا صبر وانتظر وطرق الباب بصدق.

كنتُ غارقةً في عالمي، أصلّي القيام في المسجد، مثقلةً بالدعوات، غارقةً في الرجاء، أرتّب أمنياتي بين السجود والركوع، أبحث عن تلك اللحظة التي أشعر فيها أن روحي التحمت بالسماء، وأن دعواتي وجدت طريقها إلى الله من دون عوائقَ، إذ سمعت صوت بكاء خافت، لكنّه يحمل من الحزن ما يكفي لتقطيع القلب.

بجانبي، كانت فتاة شابّة تصلّي، تنحني في الركوع، تسجد، وحين تضع جبهتها على الأرض، ينفجر البكاء من صدرها كما لو كان الألم كلّه، الذي تحمله، يخرج دفعةً واحدة. لم يكن مجرّد بكاء عادي، بل كان نحيباً يمزّق السكون، رجاءً مكتوماً يصاحبه ارتجاف خفيف في كتفيها. حاولت أن أغضّ الطرف، أن أعود إلى دعواتي، لكنّ صوتها كان يملأ قلبي، كأن ألمها صار جزءاً منّي.

لا أعرفها، ولا أعرف قصّتها، لكنّني شعرتُ أنها تجسّد معنى الليلة الموعودة أكثر ممّا أفعل. كانت كأنّها تمثّل كلّ الذين ينتظرون فرجاً طال انتظاره، وكلّ الذين يختزنون في صدورهم أحزاناً لم يستطيعوا أن يبوحوا بها إلا إلى الله. هل كانت تطلب شفاءً، غفراناً، فرجاً لحزن غائر في صدرها، أم كانت ببساطة تحاول أن تجد نفسها وسط هذا الزحام كلّه؟

صرت في كلّ ركعة ممّا تبقّى أسمع شهقاتها، وفي كلّ سجدةٍ أشعر أن قلبها يحترق، وكأنّ الليلة كانت فرصتها الأخيرة لتطلب ما تشاء، وكأنّها تؤمن بأن الدعاء هذه المرّة لن يعود خائباً. شعرتُ أنني صرتُ جزءاً من حزنها، صارت دعواتي لها بقدر ما كانت لنفسي. تمنّيتُ أن تخرج من هذه الليلة بقلب أخفّ، وأن تجد العزاء الذي تبحث عنه، وأن تشرق روحها بعد ظلام طويل.

يا لها من ليلة إذاً! فيها يتجلّى ذلك التوازن العجيب بين الأمل والخشوع، وبين الرجاء والخوف، وبين البكاء والابتسام، وبين الشعور بالذنب والشعور بأن الغفران أقرب إلينا ممّا نعتقد. ليلة يعيشها الإنسان بكلّ جوارحه، فيُراجع نفسه، ويحاسب قلبه، ويضع أمامه قائمةَ أحلامه الطويلة، ويقول: ربّما لم تتحقّق بعد، لكن ما زال هناك متّسع من الرحمة، ووقت للدعاء، وسبب لأن أؤمن بأن الغيب يحمل لي أكثر ممّا أراه بعيني.

حين انتهت الصلاة، جلستُ في مكاني لحظات، التفتُّ أبحث عن الفتاة، لكنّني لم أجدها. كانت قد اختفت وسط الجموع، كما لو أن حضورها كان جزءاً من حكمة هذه الليلة.

مَن منّا لم يحمل في قلبه حلماً صعباً ظنّ أنه لن يتحقّق؟ مَن منّا لم يشعر في لحظة ما أن الحياة قد أغلقت أبوابها في وجهه؟… لكنّنا، رغم ذلك، ننتظر. ننتظر المعجزة، اللحظة التي تنقلب فيها الموازين، كفرج يأتي من حيث لا نحتسب في ليلة القدر، فتتجلّى الحقيقة العظمى للحياة: أن الأمور لا تتغيّر دائماً بجهدنا وحده، بل أحياناً بلحظة من النور الإلهي الذي يبدّل الأحوال من حال إلى حال. ليلة واحدة قد تكفي لتغير قدراً، لتفتح باباً كان مغلقاً، لتعيد ترتيب المسارات التي حسبنا أنها انتهت.

في ليلة القدر، لا نصلّي فقط، بل نحلم. لا ندعو فقط، بل نؤمن أن الدعاء يصل. لا نبكي فقط، بل ندرك أن الله يسمع هذا البكاء. هي ليلة واحدة في السنة، لكنّها تكفي لأن تمنحنا عمراً من الأمل، عمراً من الانتظار الجميل، عمراً من اليقين بأنّنا لسنا وحدنا، وأن هناك دائماً ضوءاً صغيراً في آخر النفق، مهما بدت العتمة حالكة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *